Posted by: adelsamhood | جوان 21, 2013

(النص)

(النص)

 

 

 

إعداد:

عادل بن صالح صمهود

 


 

§       المقدمة :

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم أما بعد:

موضوع هذا التقرير هو النص ويتضمن التعريف بالنص لغة واصطلاحا وقواعد في التعامل مع النصوص الشرعية عند أهل السنة و الفرق المنهجي بين أهل السنة وأهل الأهواء في الموقف من النص.

 

 

§       التعريف بالنص لغة واصطلاحا:

أولا: النص في اللغة:

يأتي النص في لغة العرب على عدة معاني منها:

رفع الشيء وإظهاره عن طريق الإسناد وفي ذلك قال ابن منظور: ” النص رفعك الشيء نص الحديث ينصه نصا رفعه وكل ما أظهر فقد نص وقال عمرو بن دينار ما رأيت رجلا أنص للحديث من الزهري أي أرفع له وأسند يقال نص الحديث إلى فلان أي رفعه وكذلك نصصته إليه”([1])

ويأتي الرفع والإظهار أيضا عن طريق الإشهار والبروز ومنه:  ” ونصت الظبية جيدها رفعته ووضع على المنصة أي على غاية الفضيحة والشهرة والظهور والمنصة ما تظهر عليه العروس لترى وقد نصها وانتصت هي والماشطة تنتص عليها العروس فتقعدها على المنصة وهي تنتص عليها لترى من بين النساء وفي حديث عبدالله بن زمعة أنه تزوج بنت السائب فلما نصت لتهدى إليه طلقها أي أقعدت على المنصة”([2]).

 ومن الرفع والإظهار وضع المتاع بعضه فوق بعض : “من قولهم نصصت المتاع إذا جعلت بعضه على بعض وكل شيء أظهرته فقد نصصته والمنصة الثياب المرفعة والفرش الموطأة ونص المتاع نصا جعل بعضه على بعض”([3])

 ومنه رفع سير الناقة عبر تحريكها: “ونص الدابة ينصها نصا رفعها في السير وكذلك الناقة وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين دفع من عرفات سار العنق فإذا وجد فجوة نص أي رفع ناقته في السير وقد نصصت ناقتي رفعتها في السير وسير نص ونصيص وفي الحديث أن أم سلمة قالت لعائشة رضي الله عنهما ما كنت قائلة لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عارضك ببعض الفلوات ناصة قلوصك من منهل إلى آخر ؟ أي رافعة لها في السير قال أبو عبيد النص التحريك حتى تستخرج من الناقة أقصى سيرها وأنشد وتقطع الخرق بسير نص والنص والنصيص السير الشديد والحث “([4])

 ويأتي بمعنى الإسناد إلى الرئيس الأكبر والتوقيف والتعيين وشدة الأمر واستقصاء الشيء: “النص الإسناد إلى الرئيس الأكبر والنص التوقيف والنص التعيين على شيء ما ونص الأمر شدته قال أيوب بن عباثة ولا يستوي عند نص الأمور باذل معروفه والبخيل ونص الرجل نصا إذا سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده ونص كل شيء منتهاه وفي الحديث عن علي رضي الله عنه قال إذا بلغ النساء نص الحقاق فالعصبة أولى يعني إذا بلغت غاية الصغر إلى أن تدخل في الكبر فالعصبة أولى بها من الأم يريد بذلك الإدراك والغاية قال الأزهري النص أصله منتهى الأشياء ومبلغ أقصاها ومنه قيل نصصت الرجل إذا استقصيت مسألته عن الشيء حتى تستخرج كل ما عنده”([5])

 ويأتي على معنى لدى الفقهاء :”ومنه قول الفقهاء نص القرآن ونص السنة أي ما دل ظاهر لفظهما عليه من الأحكام”([6])

وفيما يتعلق بموضوعنا وهو (نصوص فلسفية وصوفية) فإن الأقرب هو الرفع والظهور والإبراز حتى يتعين لدى القاريء مراد المؤلف.

 

ثانيا: النص اصطلاحاً:

وهو ما لا يحتمل إلا معنىً واحداً وقيل ما لا يحتمل التأويل، وقيل هو ما زاد وضوحاً على الظاهر لمعنى في المتكلم وهو سوق الكلام لأجل  المعنى([7])

والإشكال لدى الأصوليين أن كل من نظر إلى النص من جهة فإنه يقسمه بحسبه وهم قد اعتمدوا على المعنى اللغوي للنص في ذلك وهو ما سيتضح فيما يلي.

فقد ذهب التهاوني إلى إنه في عرف الأصوليين يطلق على معان متعددة وهي:-

1-   كل ملفوظ مفهوم المعنى من الكتاب والسنة ظاهراً أو نصاً أو مفسراً، حقيقة أو مجازاً عاماً أو خاصاً.

2-   ما ذكر الشافعي فإنّه سمّى الظاهر نصّا فهو منطلق على اللغة، والنّصّ في اللغة بمعنى الظهور.

3-   ما لا يتطرّق إليه احتمال أصلا لا على قرب ولا على بعد كالخمسة مثلا فإنّه نصّ في معناه لا يحتمل شيئا آخر وهو الأشهر.

4-   ما لا يتطرّق إليه احتمال مخصوص وهو المعتضد بدليل.

5-   الكتاب والسّنّة أي ما يقابل الإجماع والقياس وهو الكتاب والسّنّة أي ما يقابل الإجماع والقياس. ([8])

 

وأما ابن قدامة فيرى بأن الكلام المفيد ينقسم ثلاثة أقسام نص وظاهر ومجمل:

 القسم الأول: النص وهو ما يفيد بنفسه من غير احتمال كقوله تعالى: }تلك عشرة كاملة{ وقيل هو الصريح في معناه.

 وقد يطلق اسم النص على الظاهر ولا مانع منه فإن النص في اللغة بمعنى الظهور كقولهم نصت الظبية رأسها إذا رفعته وأظهرته ومنه سميت منصة العروس للكرسي الذي تجلس عليه لظهورها عليه وقد يطلق النص على ما لا يتطرق إليه احتمال يعضده دليل فإن تطرق إليه احتمال لا دليل عليه فلا يخرجه عن كونه نصا.

 القسم الثاني: الظاهر وهو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى مع تجويز غيره وإن شئت قلت ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر .

القسم الثالث: المجمل وهو ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر وذلك مثل الألفاظ المشتركة كلفظة العين المشتركة بين الذهب والعين الناظرة والقرء للحيض والطهر والشفق للبياض والحمرة. ([9])

وفي شرح الكوكب المنير:”والنص فيه ثلاثة اصطلاحات. قيل: ما دل على معنى قطعا ولا يحتمل غيره قطعا، كأسماء الأعداد. وقيل: ما دل على معنى قطعا وإن احتمل غيره. كصيغ الجموع في العموم، فإنها تدل على أقل الجمع قطعا، وتحتمل الاستغراق، وقيل: ما دل على معنى كيف ما كان. وهو غالب استعمال الفقهاء”([10]).

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :” ولفظ النص يراد به تارة ألفاظ الكتاب والسنة سواء كانت دلالته قطعية أو ظاهرة” ([11])

 ونخلص بأن النصوص على ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: ويعبر عنه بالنص تارة والقطعي تارة أخرى وقد يقال عنه الصريح، وهو ما لا يتطرّق إليه احتمال أصلا، فلا يحتمل شيئا آخرا.

الوجه الثاني: الظاهر وهو ما يسبق إلى الفهم منه عند الإطلاق معنى هو أظهر مما سواه مع تجويز غيره.

الوجه الثالث: المجمل وهو ما لا يفهم منه عند الإطلاق معنى، وقيل ما احتمل أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر.

وهذه الأنواع الثلاثة تنطبق على موضوع مادتنا (نصوص فلسفية وصوفية) وذلك لأن النصوص إما قطعية صريحة لا تحتمل شيئا آخرا أو إنها ظاهرة في معنى أولى من الآخر أو إنها محتملة لأمرين معا دون ترجيح.

 

§       قواعد في التعامل مع النصوص الشرعية: ([12])

1)   إن ما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تعالى يجب الإيمان به سواء عرفنا معناه أم لم نعرف .

2)   إن كل ما تنازعت واختلفت فيه الأمة يجب رده إلى الكتاب والسنة.

3)   إن نصوص الكتاب والسنة متفقة غير متعارضة ولا مختلفة وأن ما يظن من التعارض والاختلاف بينها فذلك بحسب الظاهر لا في نفس الأمر.

4)   إن نصوص الكتاب والسنة الصريحة لا يعارضها شيء من المعقولات الصريحة، فكما يقال العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح.

5)   الأصل في نصوص الكتاب والسنة أن تجرى على ظاهرها دون تحريف أو تعطيل ونحوهما، والاعتقاد بأن ظاهرها يطابق مراد المتكلم بها لاسيما في أصول الدين والإيمان.

6)   كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم عربي مبين وظاهر غاية في البيان وهو مفهوم لدى المخاطبين من أهل اللسان العربي.

7)   حجية فهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم لنصوص الكتاب والسنة، وطريقتهم أسلم وأعلم وأحكم؛ نظرا لقربهم من عصر النبوة وعمق صلتهم بالكتاب والسنة وفصاحة ألسنتهم.

8)   ويبنى على ما سبق إن أصح الطرق في فهم وتفسير النصوص الشرعية أن يفسر القرآن بالقرآن فإن أعياك ذلك فعليك بالسنة فإنها شارحة له وموضحة فإن لم تجده فيها فارجع إلى أقوال الصحابة فإن لم تجده فيها فإن كثير من أهل العلم يرجع إلى أقوال التابعين. ([13])

 

§       الفرق المنهجي بين أهل السنة وأهل الأهواء في الموقف من النص: ([14])

ارتبط منهج أهل السنة بالنصوص نفيا وإثباتا وتوقفا فلا تجد لهم قولا إلا ما دلت عليه.

وهذا ما عبر عنه الخطيب البغدادي فقال: “وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم”([15])

فأهل السنة علموا أهمية نصوص الوحي  المباركة فأتوا إليها مذعنين مستسلمين دون مقررات سابقة لتقودهم ولتوقفهم على الحق الواجب إتباعه.

فأهل السنة لا مرحلة لديهم أول من النص فهو الأصل وعليه المعول، ثم تليها مرحلة بناء القواعد على تلك النصوص، كما بينه ابن عبد البر فقال: “واعلم يا أخي أن السنن والقرآن هما أصل الرأي، والعيار عليه، وليس الرأي بالعيار على السنة، بل السنة عيار عليه، ومن جهل الأصل لم يصب الفرع أبدا”([16])

وحيث إن مرحلة بناء القواعد تأتي عقب مرحلة النص، فإن النص فيها هو المحكم، ولهذا رد إليه أهل السنة كل شيء، وجعلوه الميزان المعتمد، فما صححه قبل، وما خالفه رد، وقد جلاه الحسن البصري فقال:” لن يزال لله نصحاء في الأرض من عباده، يعرضون أعمال العباد على كتاب الله، فإذا وافقوه حمدوا الله، وإذا خالفوه عرفوا بكتاب الله ضلالة من ضل، وهدى من اهتدى”([17])

وقد أكثر شيخ الإسلام ابن تيمية من بيان هذا المنهج وإيضاح ذلك المسلك في مؤلفاته ومن ذلك قوله:”فعلى كل مؤمن ألا يتكلم في شيء من الدين إلا تبعًا لما جاء به الرسول، ولا يتقدم بين يديه، بل ينظر ما قال، فيكون قوله تبعًا لقوله، وعلمه تبعًا لأمره، فهكذا كان الصحابة ومن سلك سبيلهم من التابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ فلهذا لم يكن أحد منهم يعارض النصوص بمعقوله، ولا يؤسس دينًا غير ما جاء به الرسول، وإذا أراد معرفة شىء من الدين والكلام فيه نظر فيما قاله اللّه والرسول، فمنه يتعلم وبه يتكلم، وفيه ينظر ويتفكر، وبه يستدل، فهذا أصل أهل السنة”([18])  

وما تقدم هو مسلك أهل السنة ومنهجهم الذي ساروا عليه في جميع المسائل وما زالوا، وهو ما ميزهم عن غيرهم من أهل الأهواء، وكانت عاقبة أمرهم ثباتا ورسوخا وهداية وسلامة من التناقض والإضطراب.

 

وأما أهل الأهواء فقد اعتقدوا ثم استدلوا فأتوا إلى النصوص ليقودوها إلى مقرراتهم السابقة ونظروا إلى النصوص من خلالها، فما خالف مقرراتهم وقواعدهم من النصوص عمدوا إلى جعلها تابعة لا قائدة.

فكان لهم في ذلك طريقان:

الأول: إذا وافق النص ما قرروه سابقا، فهذا يعمل به اعتضادا لا اعتمادا.

الثاني: إذا خالف النص مقرراتهم السابقة وقواعدهم، فلهم معه مسلكان إما التأويل أو التفويض.

وبناء على ما تقدم لم يكن للنص الشرعي أي قيمة أو مزية، فهو كما يقال تحصيل حاصل، ولكن المعتبر لديهم والعيار هو موافقة الهوى وما تميل إليه النفوس، من قواعد وشبهات عرضت لهم فأشربوها فضلوا وأرادوا أن يستدلوا لها فأضلوا من تبعهم.

وقد بين شيخ الإسلام مسلكهم فقال: “وأهل البدع لا يجعلون اعتمادهم في الباطن ونفس الأمر على ما تلقوه عن الرسول، بل على ما رأوه أو ذاقوه، ثم إن وجدوا السنة توافقه وإلا لم يبالوا بذلك، فإذا وجدوها تخالفه أعرضوا عنها تفويضًا أو حرفوها تأويلا”([19])

وقد فصل رحمه الله طريقتهم مع النصوص الشرعية فقال: “والمفترقة من أهل الضلال تجعل لها دينًا وأصول دين قد ابتدعوه برأيهم، ثم يعرضون على ذلك القرآن والحديث، فإن وافقه احتجوا به اعتضادًا لا اعتمادًا، وإن خالفه فتارة يحرفون الكلم عن مواضعه ويتأولونه على غير تأويله وهذا فعل أئمتهم، وتارة يعرضون عنه، ويقولون: نفوّض معناه إلى اللّه، وهذا فعل عامتهم .

وعمدة الطائفتين في الباطن غير ما جاء به الرسول، يجعلون أقوالهم البدعية محكمة، يجب اتباعها واعتقاد موجبها، والمخالف إما كافر وإما جاهل لا يعرف هذا الباب، وليس له علم بالمعقول ولا بالأصول”([20])

وقال ابن القيم : ” أن هؤلاء المعرضين عن الأدلة السمعية المعارضين لها إذا فعلوا ذلك لم يبق لهم إلا طريقان إما طريق النظار وهي الأدلة القياسية العقلية وإما طريق   الكشف   وما بدرك بالرياضة وصفاء الباطن وكل من هاتين الطريقتين باطلة أضعاف حقه وفيها من التناقض والاضطراب والفساد مالا يحصيه إلا رب العباد ولهذا تجد غاية من سلك الطريق الأولى الحيرة والشك وغاية من سلك الطريق الثانية الشطح فغاية أولئك عدم التصديق بالحق وغاية هؤلاء التصديق بالباطل وحال أولئك تشبه حال المغضوب عليهم وحال هؤلاء تشبه حال الضالين ونهاية أولئك التعطيل والنفي ونهاية هؤلاء الإلحاد والقول بالوحدة والاتحاد “([21])

 

§       نماذج من أقوال أهل الأهواء في مخالفتهم للنصوص الشرعية:

“لما كان المعارض للنص عند كل طائفة من أهل الأهواء يختلف بحسب منهج كل في مصادر التلقي، فقد تنوعت وجوه هذه المعارضة وفق ذلك، فكان العقل عند أهل الكلام-رغم تباين مدارسهم-هو المقدم على النص، وكان الكشف لدى منحرفي الصوفية هو المقدم، وكان التعصب المذهبي لدى غلاة المقلدة هو المقدم، وكان إخضاع نصوص الشرع لمسايرة الواقع هو المقدم لدى طائفة من المتأخرين الذين فتنوا بالمدنية الغربية، وراموا تطويع الشريعة؛ لتساير مفاهيم تلك المدنية، رغم تباين مابين الشريعة وبين تلك المفاهيم”([22])

إذن تلحظ أن السبب واحد وإن تنوعت صوره وتعددت أشكاله، فالمقصود تطويع النصوص للأهواء والتصورات والقوانين السابقة، فسواء كان الباعث لذلك العقل أو الكشف أو التعصب المذهبي أو مسايرة الحضارة والمخترعات الغربية، فكما قيل تعددت الأسباب والموت واحد.

 أولا:أقوال المتكلمين في دعواهم المعارضة بين العقل والنص:

فقد زعم المتكلمون تحقق وقوع المعارضة بين العقل والنقل، ثم رتبوا على ذلك وجوب تقديم العقل، لأن العقل عندهم أصل النقل، إذ لو قدح في الدليل العقلي لأفضى ذلك إلى القدح فيهما معا.

فكان من أشهر من ذهب إلى هذا هو الفخر الرازي، الذي صاغ قانونا كليا فيما يستدل به من كتاب الله تعالى وكلام أنبيائه عليهم السلام وما لا يستدل به، فقال:”إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات فإما أن يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين وإما أن يردا جميعا وإما أن يقدم السمع وهو محال لأن العقل أصل النقل فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحا في العقل الذي هو أصل النقل والقدح في أصل الشيء قدح فيه فكان تقديم النقل قدحا في النقل والعقل جميعا فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض وأما إذا تعارضا تعارض الضدين امتنع الجمع بينهما ولم يمتنع ارتفاعهما”([23])

ومثل ذلك قول القاضي عبد الجبار عند ذكره لحديث الآحاد فقال: “وإن كان مما طريقه الاعتقادات ينظر، فإن كان موافقا لحجج العقول قبل واعتقد موجبه، لا لمكانه، بل للحجة العقلية، وإن لم يكن موافقا لها فإن الواجب أن يرد”([24])

ونظير ذلك ما قاله النظام: “أن جهة حجة العقل قد تنسخ الأخبار”([25])

فهؤلاء جعلوا عقولهم الضعيفة حاكمة وأصلا لنصوص الشريعة فهي التي تقبل أو تنسخ، ولا حجة لدليل الشرع بل الحجة إنما هي لدليل العقل وحده.

 

ثانيا:أقوال أهل التصوف في حجية دليل الكشف:

” وحد الاقتصاد بين هذا الانحلال كله وبين جمود الحنابلة دقيق غامض لا يطلع عليه إلا الموفقون الذين يدركون الأمور بنور إلهي لا بالسماع ثم إذا انكشفت لهم أسرار الأمور على ما هي عليه نظروا إلى السمع والألفاظ الواردة فما وافق ما شاهدوه بنور اليقين قرروه وما خالف أولوه فأما من يأخذ معرفة هذه الأمور من السمع المجرد فلا يستقر له فيها قدم “([26])

ومن ذلك ما نسب إلى الجيلاني حيث قال: “فانظر إلى وزيريك، الكتاب والسنة، خذ مشورتهما، فإن أفتياك توقف، لا تستعجل، لا تُشِرْ، استفتِ نفسك وإن أفتاك المفتون، النفس إذا جاهدتها وخالفتها انسكبت مع القلب، صارا شيئاً واحداً([27])

فأنت تفهم من هذا النقل إن ما تقرره النصوص الشرعية غير ملزم لك، فعليك بالتريث والانتظار حتى تستفتي نفسك فعليها المعول وهي الأصل.

 

ثالثا: غلاة المقلدة من أتباع المذاهب الفقهية :

بلغ التعصب المذهبي ببعض أتباع المذاهب الفقهية مبلغا عجيبا جعلهم يقدمون أقوال مشايخهم على نصوص الشريعة فقال الصاوي:”لا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر؛ لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر”([28])

كبرت كلمة تخرج من أفواههم فكيف يكون إتباع الكتاب والسنة من أصول الكفر نعوذ بالله من الخذلان ولكن كما قيل حبك الشيء يعمي ويصم!.

وهناك من أتباع المذاهب من تلطف في العبارة مثل ما نقل عن أبي الحسن الكرخي أنه قال: “الأصل أن كل آية تخالف قول أصحابنا فإنها تحمل على النسخ أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق”([29])

وأنت تقرأ هذه العبارات تأمل هذا النقل عن أهل السنة في موقفهم من نصوص الكتاب والسنة فقد قال ابن تيمية: “فإنه من آمن بالله ورسوله إيمانا تاما وعلم مراد الرسول قطعا تيقن ثبوت ما أخبر به وعلم أن ما عارض ذلك من الحجج فهي حجج داحضة من جنس شبه السوفسطائية كما قال تعالي  }والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد { (الشورى : 16)” ([30])

 هذا الكلام الذي يشع نورا وتنشرح له الصدور من اليقين والاستسلام والانقياد للشرع.

 

رابعا: المفتونون بالحضارة الغربية:

أرسل محمد علي باشا عددا من التلاميذ إلى فرنسا وكانوا في طليعة المبتعثين وذلك عام 1826م والذين بهرهم بريق المدنية فكانت لهم صدمة حضارية، شكلت لديهم أشبه ما يكون بغسيل الدماغ فرجعوا بفكر جديد وانحراف فاق ما عند الأوائل، مما جعلهم يطوعون نصوص الشريعة لتتوافق مع المدنية الغربية.

وقد كان للشيخ محمد عبده قصب السبق في تأويل نصوص القرآن لتتفق مع النظريات الغربية خاصة ما يتعلق بأمور الغيب ولذلك نجد “إن الشيخ محمد عبده عندما عرض عقيدة السلف في الملائكة، ذكر بعده آراء العقلانيين من الفلاسفة ونحوهم بأن الملائكة هم نوازع الخير..ثم انتصر لهذا الرأي وبين أنه ليس من المستبعد أن يسمي الله تعالى الأفكار والخواطر التي تدفع إلى الخير ملائكة…وكذلك الشيطان يحتمل أن يكون هاتف الشر..

وكذلك يميل إلى تأويل قصة آدم وسجود الملائكة له وقصته مع الشيطان في الجنة بأنها من قبيل التمثيل لا الحقيقة…..ويرى أن الميكروبات من الجن”([31])

ثم سار على منهج الشيخ محمد عبده تلامذته من بعده ومن ذلك أنه لما شكل الشيخ مصطفى المراغي لجنة تنظيم الأحوال الشخصية قال لأعضائها: “ضعوا من المواد ما يبدو لكم أنه يوافق الزمان والمكان، وأنا لا يعوزني بعد ذلك أن آتيكم بنص من المذاهب الإسلامية يطابق ما وضعتم” ([32])

ثم نذكر أمثلة من واقعنا المعاصر لكتاب ومفكرين لم يروا قدسية للنص وأن التفسير يملكه كل أحد وأن النص الذي لا يلائم الواقع ينبغي تغييره، ولذلك لما سُئل محمد أركون عن كيفيَّة التَّعامل مع النُّصوص الواضحة غير المحتملة؛ كقوله تعالى: }لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ{ [النساء: 11]، قال: «في مثل هذه الحالة لا يمكن فعل أي شيء إلا إعادة طرح مسألة التفسير القرآني؛ لا يمكننا أن نستمرَّ في قبول ألَّا يكون للمرأة قسمةٌ عادلة!! فعندما يستحيل تكيُّفُ النَّصِّ مع العالم الحالي ينبغي العملُ على تغييره»([33]).

ويقول أيضا: «فالقرآنُ هو نَصٌّ مفتوحٌ لجميع المعاني، ولا يمكن لأيِّ تفسير أو تأويل أن يغلقَه أو يستنفدَه بشكل نهائيٍّ»([34]).

ويرى أن القرآن والنصوص المؤسسة للبوذية والهندوسية سواء وأنه نص خاضع للتوسعات المستقبلية فقال: «إنَّ القرآنَ ليس إلَّا نصًّا من جملة نصوص أخرى تحتوي على نفس مستوى التَّعقيد والمعاني الفوَّارة الغزيرة؛ كالتَّوراة والإنجيل والنُّصوص المؤسسة للبوذيَّة أو الهندوسيَّة، وكل نص تأسيسيّ من هذه النصوص الكبرى حظي بتوسُّعات تاريخيَّة معيَّنة، وقد يحظى بتوسُّعات أخرى في المستقبل»([35]).

ويقولُ محمَّد شحرور: «لا ضرورةَ للتَّقيُّد بالنُّصوص الشَّرعيَّة التي أوحيت إلى محمد رسول الله في كلِّ ما يتعلَّق بالمتاع والشَّهوات؛ ففي كلِّ مرَّة نرى في هذه النُّصوص تشريعًا لا يتناسب مع الواقع، ويعرقل مسيرة النُمُوّ والتَّقَدُّم والرفاهية، فما علينا إلا أن نميل عنه»([36]).

ويقول أيضا: «النَّصُّ يتَّسع للكلِّ، ويتَّسع لكلِّ الأوجه والمستويات»([37]).

والنص القرآني لا فرق بينه وبين النصوص الأدبية فكلاهما يخضع لقواعد النقد الأدبي، وهو ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد حيث قال: «إنَّ النَّصَّ القرآنيَّ وإن كان نصًّا مقدَّسًا، إلَّا أنَّه لا يخرج عن كونه نصًّا؛ فلذلك يجب أن يَخضع لقواعد النَّقد الأدبيِّ كغيره من النُّصوص الأدبيَّة»([38]).

ويرون أنه لا حجية لفهم السلف الصالح وإنما يؤخذ من باب الاستئناس فيقول التُّرابيُّ: «وكلُّ التُّراث الفكريّ الذي خلَّفَه السَّلَفُ الصَّالحُ في أمور الدِّين هو تراثٌ لا يُلتَزَم به؛ وإنَّما يُسْتَأْنَسُ به»([39]).

وهي كما ترى ظلمات بعضها فوق بعض نعوذ بالله من الخذلان ومن العمى بعد الهدى.

§       الخاتمة:

وختاما فإن منهج أهل السنة من أسلم المناهج وأحكمها، لما لهم من عظيم العناية بالنصوص من حيث الرواية والدراية، وهي واضحة عنده منشرح بها صدره، يسلك معها سلوك الراسخين في العلم فيرد المتشابه إلى المحكم،  أدى بهم ذلك إلى الاتفاق والائتلاف، وسلموا من افتراق أهل الأهواء واختلافهم، ولذلك سموا بأهل السنة والجماعة.


([1]) لسان العرب، ابن منظور، (7/97-98).

([2]) لسان العرب، ابن منظور، (7/97-98).

([3]) لسان العرب، ابن منظور، (7/97-98).

([4]) لسان العرب، ابن منظور، (7/97-98).

([5]) لسان العرب، ابن منظور، (7/97-98).

([6]) لسان العرب، ابن منظور، (7/97-98).

([7])التعريفات، الجرجاني، (ص237).

([8]) انظر: كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، التهاوني، (2/ 1695-1697).

([9]) انظر: روضة الناظر، ابن قدامة ، (178-181).

([10])شرح الكوكب المنير، ابن النجار، (3/ 479).

([11]) شمول النصوص لأحكام العباد، ابن تيمية ، (ص11).

([12]) استفدت من كتاب منهج الاستدلال على مسائل الاعتقاد، لعثمان حسن، (1/221) وما بعدها.

([13]) انظر: مجموع الفتاوى، ابن تيمية ، (13/363-370).

([14]) استفدت من الفرق المنهجي بين أهل السنة وأهل الأهواء للدكتور عبدالله العنقري، وهو بحث علمي محكم.

([15]) شرف أصحاب الحديث، الخطيب البغدادي، (ص28).

([16]) جامع بيان العلم، ابن عبد البر، (2/1140).

([17]) نقله الشاطبي عنه في الاعتصام (1/34).

([18]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (13/ 63).

([19]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (13/ 63).

([20]) مجموع الفتاوى، ابن تيمية، (13/ 142).

([21])الصواعق المرسلة، ابن القيم، ( 3 / 1165-1166) .

([22]) الفرق المنهجي، عبدالله العنقري، (ص45-46).

([23])  نقله عنه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه درء التعارض، (1/ 1-2)، ثم قال :”وأما هذا القانون الذي وضعوه فقد سبقهم إليه طائفة، منهم أبو حامد، وجعله قانونا في جواب المسائل التي سئل عنها في نصوص أشكلت على السائل، كالمسائل التي سألها عنها القاضي أبو بكر العربي، وخالفه القاضي أبو بكر في كثير من تلك الأجوبة”.

([24])  شرح الأصول الخمسة، القاضي عبد الجبار، (769-770).

([25])  نقله عنه ابن قتيبة، في كتاب تأويل مختلف الحديث، (ص32).

([26])  إحياء علوم الدين، الغزالي،(1/124).

([27])  الفتح الرباني، عبدالقادر الجيلاني،(ص303).

([28])  حاشية الصاوي،(3/10).

([29])  أصول الكرخي، (ص373).

([30])  درء التعارض، ابن تيمية،(1/ 15).

([31])  الاتجاهات العقلانية الحديثة، ناصر العقل،(ص295).

([32])  المجددون في الإسلام، عبد المتعال الصعيدي، (ص413).

([33]) حوار أجرته معه المجلة الفرنسية: «لونوفيل أبسرفاتور» (Observateur Nouvel) فبراير 1986، نقلا عن بدعة إعادة النص للشيخ محمد المنجد، (ص42).

([34]) تاريخية الفكر العربي الإسلامي، محمد أركون (ص145).

([35]) الفكر الأصولي، محمد أركون، (36ص).

([36]) الكتاب والقرآن، محمد شحرور، (ص445).

([37]) نقد الحقيقة، على حرب، (ص45).

([38]) مفهوم النص، نصر أبو زيد، (ص24).

([39]) تجديد الفكر الإسلامي، حسن الترابي، (ص105).


أضف تعليق

التصنيفات